
لبنان: هل الأمن الغذائي في خطر؟
الأمن الغذائي أصبح من المواضيع الساخنة في لبنان بعد تقدير البنك الدولي أن معدل الفقر يمكن أن يرتفع في الفترة المقبلة إلى 50% إذا تفاقم الوضع الاقتصادي سوءًا. وبحسب تقرير الإسكوا المتعلّق بالأمن الغذائيّ يُقدّر أن 300 ألف مواطن لبناني يعانون من الفقر الشديد، وغير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائيّة الأساسيّة، كما يعيشون بأقل من 2.5 دولار يومياً.
وعلى عكس معظم دول العالم، لم تكن جائحة كورونا السبب الرئيسي في انهيار الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان والوصول لأزمة أمن غذائي بل هناك أسباب أخرى متواجدة منذ سنوات، كفساد الدولة وغياب خطّة اقتصاديّة سليمة ومستدامة على مدى سنوات، مما شكّل أزمة سيولة حادة مؤخراً، وأوصل الوضع الاقتصادي لعدم استقرار في سعر صرف الدولار مقابل اللّيرة اللّبنانية، وأهمل الزراعة والصّناعة المحليّة. كل ذلك أدى إلى إرتفاع أسعار السّلع والمواد الغذائية بشكل استثنائي، خصوصاً بعد اندلاع مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 في ظلّ غياب الرّقابة الرّسميّة على الأسعار وانعدام الاكتفاء الذاتي الغذائي.
الزراعة في لبنان: قطاع منسي
أهملت وزارة الزراعة إنعاش القطاع الزراعي الذي يشكّل وبحسب تقرير الإسكوا لعام 2019، 3٪ فقط من الاقتصاد الوطني، كما أهملت إنماء الأرياف مثل سهل البقاع اللّبنانيّ والمساحات الزراعيّة الواسعة والخصبة فيه، إذ يشكّل أكبر منطقة زراعية من حيث المساحة وحجم الإنتاج. وأغفلت الوزارة استثمار الأراضي الزراعيّة بالمحاصيل التي ترتبط بالأمن الغذائيّ كالاستثمار بزراعة القمح الوطني الذي يغطّي الآن أقل من 25% من احتياجات السوق المحليّة بل ركزت الدولة اللبنانية على استيراد القمح الذي يأتي 80% منه من أوكرانيا وروسيا، بسعر أقل من كلفة إنتاجه محلّياً. وانخفاض إنتاج المحاصيل الزراعيّة المحليّة واندثار الصناعة في لبنان، أدّى إلى تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد يعتمد على الاستيراد لتغطيّة حاجات السّوق المحليّ.
أهملت وزارة الزراعة إنعاش القطاع الزراعي الذي يشكّل وبحسب تقرير الإسكوا لعام 2019، 3٪ فقط من الاقتصاد الوطني
وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية الخاص في لبنان لعام 2020، تغطي الواردات الغذائية نسبة 80% من حاجة السّوق المحليّة ومعظمها من المنتجات التي يمكن زراعتها في الأراضي اللّبنانيّة. كما أن إهمال السّلامة الغذائيّة الزراعيّة في لبنان أدّى أحيانا إلى رفض بعض المنتجات الغذائية اللبنانية عند تصديرها إلى الخارج.
ومع بداية الأزمة الاقتصادية الحادة العام الماضي التي ترتبط بواقع غياب الدولار لتمويل استيراد المواد الغذائية، سواء كانت سلع جاهزة للاستهلاك أو مواد أوليّة تدخل في الصناعة الغذائية المحليّة، ومع الحصار البريّ، والبحريّ، والجوّيّ الذي فرضه فيروس كورونا، تُطرح الأسئلة حول الأمن الغذائي في لبنان وكيفية الاستفادة من السهول والأراضي الجاهزة لتربية الماشية وتأمين الاكتفاء الذّاتي الغذائيّ. دفع ذلك البعض لإطلاق مبادرات محلية لوقف الإعتماد على السوق لتلبية الحاجات الغذائية، والترويج للزراعة المنزلية لتحقيق الإكتفاء الفردي.
مبادرات مدنيّة ومحاولات ولكن
بحسب وزارة الاقتصاد والتجارة في لبنان فقد ارتفعت أسعار الخضار والفاكهة، بنسبة 27.17% و20.13% على التوالي خلال الأشهر السّتة الماضيّة ما دفع منظمة الطاقة الوطنيّة لإطلاق مبادرة حملت شعار “أمّن أمنك الغذائي”، تقدّم من خلالها كميات من البذور الزراعية إلى الأفراد لتشجيعهم على زراعة الخضروات والفواكه.
كما انطلقت مبادرة أخرى تحت عنوان “زرّيعة قلبي” من قبل المخرجة اللّبنانيّة نادين لبكي بمساعدة مجموعة من المؤثرين في مجال الفن والإعلام وبعض الجمعيات المدنيّة تشجع الأفراد على الزراعة المنزلية وتساعد المواطنين الراغبين زراعة الخضروات والفواكه في السّاحات الخارجيّة لمنازلهم، وعلى أسطح المباني، لكسر الاعتماد على السّوق.
في مقابلة لنا معها، أكدت المسؤولة الإعلاميّة لحملة “زرّيعة قلبي”، زينة صفير، أن الناس متفاعلين بشكل كبير مع هذه الحملة، وأن الإتصالات من الأشخاص الطالبين للمساعدة لمعرفة طرق الزراعة أو طالبي الشتول والبذور، كما العارضين للمساعدة من خلال تقديم مجموعة من البذور أو الشتول، لا تتوقف ليلاً نهاراً. وأشارت إلى أن هذه الحملة تلّعب دور الوسيط بين طالب المساعدة ومقدمها. كما أوضحت صفير أن هذه الحملة تقدّم الإرشادات الزراعيّة للراغبين من خلال عدد من الجمعيات التي تعنى بالعمل الزراعي المستدام. وأشارت إلى أن هذه الحملة تساعد الناس “خطوة بخطوة” على تحقيق الاكتفاء الذاتي المستدام بدل الاعتماد على المساعدات الغذائيّة.
مجموعات مدنية أخرى مثل “حركة حبق”، و”إزرع”، وغيرها سعت منذ تشرين الأول/اكتوبر 2019 على إقامة مشاريع زراعيّة تشجع الأفراد على العودة للأرض والزراعة من دون استخدام الكيماويات، وعملت على مساعدتهم على تعلّم ما تحتاجه الدورة الزراعية، وبذلك تشجيع الأفراد على التنمية المستدامة والحفاظ على أمنهم الغذائي.
كثرت الانتقادات التي واجهت هذه الحملات، إلّا أنّها أيضاً لاقت ترحيباً واسعاً لدى البعض. وتعرّف هذه الحملات نفسها على أنّها بعيدة كلّ البعد عن قطاعات الدولة وأحزابها السّياسيّة وأنها مشاريع تنموية تحاول تعزيز التنميّة المستدامة ووعي المستهلك الذي سيتحوّل بمساعدة هذه المجموعات إلى منتج يؤمن لإكتفاءه الشّخصيّ. ولكنّها بالمقابل ما زالت مبادرات صغيرة تعتمد بشكل أساسي على الغذاء النباتي بما أن هدفها تعليم الناس كيفية الحصول على اكتفاء غذائي، وليس تقديم المساعدات الآنيّة وغير المستدامة.
أزمة الدولار بين الغلاء المعيشي والخوف من “المجاعة”
ارتفعت أصوات اللبنانيين مع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائيّة حوالى 60% خلال الستة أشهر الماضية، بحسب ما جاء في تقرير جمعية حماية المستهلك حول أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بالتزامن مع تقليل رواتب الموظفين وسحب الدولار من السّوق اللّبناني بسبب الأزمة الماليّة النقديّة التي يعيشها.
وبسبب الخوف من جائحة كورونا التي فرضت نفسها على حياة الجميع، سارع الكثيرون الى تخزين المواد الغذائيّة مما زاد الطلب عليها، وسمح للتجّار باستغلال الوضع الاقتصادي واحتكار السّوق دون أي رقيب. رغم زعم وزارة الاقتصاد والتجارة لعدّة أشهر محاولة السيطرة على هذا الاحتكار من خلال إرسال فرق من مراقبي جمعية حماية المستهلك التابعة للوزارة لضبط هذه المخالفات، إلّا أن الأسعار ما زالت ترتفع يومياً وبشكل كبير ومتفاوت بين المناطق، حتّى على السّلع الغذائيّة المصنعة في لبنان، والسّلع المصنعة قبل تفجر الأزمة الاقتصادية. وبعد مرور أشهر على الأزمة المعيشيّة الحادّة، صدر قرار لوزارة الإقتصاد والتجارة بدعم من مصرف لبنان هدفه دعم استيراد بعض المنتجات الغذائيّة الأساسيّة بهدف خفض أسعار السلع، والحفاظ على الأمن الغذائي في هذه الظروف.
هل سينفذ المخزون الغذائي الحالي ويعيش لبنان في الفترة المقبلة نقص موارد غذائية أساسيّة؟
ونشرت مؤسّسة البحوث والاستشارات في لبنان، رسم توضيحي تحت عنوان “شو بتشتريلك الـ 50.000؟” يظهر مقارنة بين السّلع التي كان بإمكان المستهلك شراءها في نيسان/ابريل 2019 والسّلع التي كان بإمكانه شراءها في 2020. كما أظهر الرّسم أن المنتجات انخفضت إلى النصف تقريباً خلال سنة واحدة وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المنتجات الغذائية بشكل خيالي.
التخوّف من حدوث مجاعة كالتي حدثت عام 1915 بالتزامن مع الحرب العالميّة الأوّلى، والتي أثرت على لبنان، هو رهاب جديد للمواطن. إذ يتخوف عدد كبير من اللبنانيين من شبح المجاعة التي سمعوا عنها، رغم عدم وجود أيّ معمّر ليروي الحكاية .
الخوف من مجاعة محتملة انتشر خاصّةً لأنه في الفترة المقبلة لن يستطيع التجّار تأمين المواد الغذائية المستوردة بسبب أزمة الدولار، ولبنان غير مؤهل لتأمين الاكتفاء الذاتي الغذائي. كل ذلك يشكل تحدياً حقيقياً للمواطن اللبناني ولأمانه الغذائي. وتجدر الإشارة إلى أن الحدّ الأدنى للأجور كان يساوي 450$ منذ أشهر فقط وأصبح يساوي اليوم حوالي 160$.
أخيراً، يحلّ فيروس كورونا ضيفاً ثقيلاً على لبنان، ويضيف نفسه على لائحة تحديات الأمن الغذائي التي لا تقتصر فقط على التحديات السّياسيّة أو الاقتصادية والماديّة، بل هي تتضمن تحديات اجتماعية وبيئيّة مثل المعاناة من أزمة المياه وارتفاع تلوثها، وتقلّبات المناخ، وضعف البنية التحتية والخدمات في الريف. وفي ظلّ هذه الظروف يدق ناقوس الخطر، فهل سينفذ المخزون الغذائي الحالي ويعيش لبنان في الفترة المقبلة نقص موارد غذائية أساسيّة؟
تم كتابة واعداد هذا المقال خلال منحة من نوى ميديا مع موقع Open Democracy، وقد تم نشره على الموقع نفسه بتاريخ 2 حزيران/يونيو 2020.