أنا في انتظارك… ملّيت
مضى شهر تقريبًا على افتتاح العام الدراسي الجديد ٢٠١٨- ٢٠١٩ في المدارس. كتبٌ، أقلامٌ، دفاتر، لفائف ومطرة مياه، كلها في حقيبة واحدة على ظهر الأطفال، فيما يحمل زين* مسؤولية أهله وعائلته على كتفيه بدلًا من الحقيبة المدرسية.
سيرة زين
يقطن زين في طرابلس مع عائلته، هو الذي ولد من أب مصري وأم سورية عام ٢٠٠٨ في مستشفى طرابلس الحكومي، بعدها انتقل أهله للعيش في منطقة جونيه- قضاء كسروان حيث يعمل والده في فرن. سجّله والداه في مدرسة راهبات المحبة في الأشرفيه حين بلغ من العمر ثلاثة أعوام، وتابع تحصيله العلمي حتّى الصف الخامس ابتدائي.
درس الفعل الماضي والمضارع المرفوع والمجزوم وفعل الأمر، كما تعلّم الحساب والجمع والطرح وأتقن اللغة الفرنسية وصار بلبل” بحسب ما يقول والده. حصّل معدلًا عاليًا وحافظ على علامات جيدة وسلوك واعٍ.
عاطل عن التعلّم
تؤكد مدرّسة اللغة الفرنسية أن زين يتحدث اللغة بطلاقة ويعبر عن أفكاره بسهولة، لتثني مدرّسة مادة الرياضيات على ذكاء زين وسرعة فهمه الدرس ومدى استيعابه لما تشرحه، فيما يتغنى مدرّس مادة الموسيقى بصوت زين واحساسه المرهف حين يغني لعبد الوهاب أو لأم كلثوم.
لكن زين ترك المدرسة هذا العام، وانضم الى فرن والده لمساعدته. هذا العام لم يشترِ كتبًا، ولا أقلام، لا دفاتر ولا حقيبة جديدة. انتقل أهله للعيش في طرابلس بسبب غلاء المعيشة وتراجع عمل والده وارتفاع أقساط المدارس بشكل “صاروخي” ووجوب تسجيل أخ زين وأخته في المدرسة. أمام هذه التحديات الكبيرة لم يتمكن أهل زين من تسجيله وإخوته في مدرسة خاصة… والمدرسة الرسمية استقبلت أخاه لكنها لم تستقبله…
“فوّلنا يا ستّ”
عاد زين وعائلته الى طرابلس، الى ذلك المنزل الذي ولد فيه. عاد من العطلة الصيفية وفي حقيبته كتب العام المنصرم بنجاح وتفوق وطموح لاستكمال دروسه في عاصمة الشمال. لم يتوقع زين أن يدرس هذا العام في الكتب نفسها، هو التلميذ المتميز والفرانكوفوني الذي ينتظر عودة الدوام المدرسي ليجلس على المقعد الخشبي ويتناول حبات العلم كأقراص الدواء. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، مع العلم أنه تعلم عملية الحساب عند راهبات الأشرفية…
مع بدء فتح التسجيل للعام الدراسي الجديد، توجهت والدة زين الى احدى المدارس الرسمية في طرابلس، في يدها دفتر علامات ابنها الذي تفتخر به بالاضافة الى أوراقه وملفه الكامل الذي يؤكد تفوقه في الصف الخامس.
“فوّلنا يا ست” ولم تفتح مجالًا للنقاش. إنها المسؤولة عن تسجيل التلاميذ الجدد، بكامل أناقتها، تجلس على كرسي بلاستيكي تكتب أسماء الأطفال على ورقة أمامها، ترتشف القهوة تارة وتأفإف توارة، تؤكد أن لا محل لزين كي يلتحق بالمدرسة ويتابع مسيرته التعلمية.
التفكير حاسة من الحواس
وقعت الكلمات في أذنَي الطفل كصاعقة أصابت شجرة خضراء وأضرمت فيها النيران وأحرقتها. في تلك اللحظة، اختفت ملامح وجه زين وكأنه انعزل عن العالم الخارجي.
“لم أعد أسمع شيئًا، وكأنني فقدت حاسة السمع للحظات ومعها حاسة التفكير”
على حد قوله. هل التفكير حاسة من الحواس؟ بحسب زين، نعم، لأنه اعتاد على التفكير وتشغيل ذهنه بالعلم والمعرفة.
“نظرت الى شاربة القهوة بحزن وقلت لها: يمكنني أن أجلس على الأرض أو أقف في الخلف اذا لا يوجد مقعد لي، وضحكت، كم غضبت حينها لأنني أحاول إيجاد حل للمشكلة، لكنها ضحكت…”
أكدت مديرة المدرسة أنهم أخذوا العدد الممكن من التلاميذ لهذا العام وأنها لا تستطيع “فتح المجال أمام بعض التلاميذ” واعتذرت من الوالدة وطلبت منها أن تعود في العام المقبل لتسجل زين.
عمر مقبول ولكن…
عمر*، الأخ الصغير لزين، نجح في صفّه الثالث ويتحضر لدخول الصف الرابع، لكنه لم يتخط عتبة الصف الجديد. على عكس زين، تمّ قبوله في المدرسة الرسمية لكن في الصف الثالث! استغربت والدة عمر الموضوع وسألت المديرة عن سبب إعادته صفّه وأشارت إلى أن مستواه في اللغة الفرنسية والرياضيات ضعيف، مع العلم أنه تلميذ مدرسة خاصة للراهبات حيث اللغة الفرنسية متقنة لدى التلاميذ.
لم تجد الوالدة أي منطق في كلام المديرة لأنها نظرت الى دفتر علامات عمر ولاحظت تفوقه على بقية التلاميذ في صفه.
رفض والداه أن يدرس من جديد صفه الثالث وقررا أن يبقياه في المنزل هذا العام. في نهاية المطاف، حُرم طفلين حقهما في التعلم لهذا العام…
هل يعود؟
انكسر خاطر زين. تعطلت أحلامه لهذا العام. تأجلت تطلعاته. لم يلتحق بالمدرسة وبقي في صفه الخامس. كتبه في المنزل. حقيبته جنب سريره قد خبأ فيها قصصًا يطالعها قبل النوم ويتلو بعضها على أخيه، معظمها في اللغة الفرنسية “Pour que je n’oublie pas le français” كما يقول.
وعن الرياضيات، فهو يجلس في فرن والده ويقوم “بالجردة المسائية ويحتسب الغلّة”، يعدّ النقود ويطرح منها المصاريف اليومية وبدل التنقل، ويقوم بتسليم رزمة الأوراق النقدية لوالده في نهاية يوم طويل من العمل. يقوم بعمله بشكل يومي وبنشاط وصبر كبيرين. أما عمر فيقطن في المنزل يلعب دور التلميذ فيما تؤدي أخته دور المعلّمة، تمسك المسطرة الخشبية في يدها وكأنها تشرح الدرس، مع العلم أنها تبلغ من العمر ٥ سنوات.
وفي انتظار العام الدراسي المقبل، يتحضر زين لدخول الصف السادس متعطشًا للعلم والمعرفة، مردّدًا أغنية أم كلثوم ” أنا في انتظارك… ملّيت.”
* زين وعمر اسمان مستعاران