الباليه في لبنان: هناك كل شيء لنقوم به
في غرفة ما، تبطئ سرعة الحياة اليومية. بين المرايا وعلى الباركيه، جسد يتحوّل الى قطعة فنية تتحرّك بدقة متناهية مع الموسيقى. الباليه أب الرقص. لعدة عصور اعتمد هذا السحر تمييزًا عنصريًا وطبقيًا ضد السود، الفقراء والبدينين. لكن الأجيال الحديثة اليوم، تؤمن بأن تنوّع الأعراق والطبقات التي ترقص الباليه، يزيد من حب هذا الرقص ويوسّع انتشار عروضه: الناس تريد مشاهدة عرض تتماثل به. ومن الانجازات العديدة على هذا الصعيد: في 2015 أصبحت ميستي كوبلاند، أول راقصة سوداء تؤدي الأدوار الرئيسية على المسرح الأميركي. وفي 2017، في الأحياء الأشد فقرًا في كيباريا (ضواحي كينيا)، يعلّم الباليه، لينقذ الأولاد من بؤسهم. ويتيح لهم تقديم العروض على مسرح كينيا الوطني.
أما في لبنان، فلم نستهدف تاريخيًا في الرقص الكلاسيكي. وأول مدرسة باليه أسستها جورجيت جبارة بمرسوم جمهوري موقّع من الرئيسين شارل حلو ورشيد كرامي، عام 1988. لكننا لازلنا لا نشاهد عروضات رقص كلاسيكي (بالأحرى -بالكاد- نجدها). ولم نزل متخلفين سنين ضوؤية في هذا المجال.
مشاكل هائلة تخنق هذا الفن، والجميع متواطئ من دولة ومحترفين، واعلاميين، وأهل ومربّين وتلاميذ.

الدولة ترفع من شأن الفن وتنشره
تؤسس السلطات السياسية خطة ثقافية تشمل وجود معاهد وطنية للرقص والموسيقى وفرق ومسارح وطنية… وهذا جزء من الارث الثقافي الوطني الذي يتيح للمواهب أن تصقل على المستوى الاحترافي، فالمهني. فلنفترض أسّسنا راقصين باليه محترفين هنا، أين يرقصون؟ على أي مسرح؟ أخجل وأنا اكتب أن لبنان لا يملك مسرحًا وطنيًا، ولا أوبرا وطني، ولا فرقة رقص وطنية. صحيح أن كركلّا أصبحت عالمية، ولكنها تبقى مؤسسة خاصة.
ناهيك عن الميزانية الضئيلة (اذا كان هناك من -ميزانية- اصلًا) المخصصة لوزارة الثقافة، التي يمكن أن ترعى معنويًا العروضات الفنية، من دون أن تتكفل بالمصاريف. والمؤسف المؤسف، أن يوزّع مال الرعاية الثقافية، أو مال بعض الوزراء وسيّداتهم، على المهرجانات “الضخمة”، لكي يحيي فنانون أجانب، السياحة اللبنانية. وتقول الراقصة ومصممة الرقص أليس مسابكي (صاحبة مدرسة (arts et mouvements: “أحسست بأنني أشحد من الوزارة لتمويل أعمالي، وهذا متعب جدًا”. عطفًا على كلامها، تشير مصممة الرقص والراقصة ندى كانو (صاحبة beiruth dance company): “شجّعتنا الوزارة بمبالغ زهيدة، ومعظم العروضات من تمويل شخصي. هذا الأمر لا يشجع على الاستمرارية”.
الرقص بشكل عام ليس مدرجًا ضمن المناهج التعليمية، بحسب مركز البحوث والانماء. ولا يمكن الحصول على أي شهادة في الباليه بسبب غياب المعاهد الوطنية (كونسرفتوار). وبالتالي، كأن ثقافة هذا الرقص معدومة “رسميًا” واجتماعيًا في البلد.
الاعلام: “الحق على الجمهور”…ولكن.
ترى المحطات الاعلاميّة اللبنانية أن جمهور الباليه ضيق، وبالتالي لا يتم عرض أداء كلاسيكي على الشاشات. هذا وان شراء عروضات أجنبية مكلف، وغير مربح نظرًا لنسبة المشاهدة المتدنية. لكن دور الاعلام يكمن في نشر المعرفة والثقافة، وليس تعزيز نشر ما يعرفه الجمهور ويريده، ألم ندرس هذه الخاصية في المدارس والجامعات؟ واذ يتم عرض حفلات موسيقية بأكملها لبعض الفنانين، لم لا يتم عرض باليه؟. ويقول مسؤول البرامج في ال”أل بي سي”، رامي زين الدين أنه “حتى البرامج السياسية لم تعد تحصد نسبة مشاهدة مرتفعة الا في الأوضاع السياسية الخاصة”، فماذا تقدّم وسائل الاعلام للثقافة، وللجمهور، غير مسلسلات مدبلجة واستقبال بعض المواهب؟
على ذلك، تؤكّد مسابكي، أن بث تلفزيون لبنان لعرضها الكلاسيكي “رشميا”، حاز على نسبة مشاهدة لا بأس بها، واتصل الجمهور متفاجئًا، للاستفسار عن ماهية العرض. كما تمت اعادة بثه مرات عديدة. وتلفزيون لبنان المحطة المحلية الوحيدة التي تعرض برنامجين ثقافيين يستقبلان أهل الاختصاص، بالاضافة الى تخصيص فترات للموسيقى الكلاسيكية نهار الأحد.
وتجدر الاشارة، الى أن بث برامج متعلّقة بالرقص على ال”ام تي في”، كـ”رقص النجوم”، و”يلا نرقص”، ساهم في زيادة المعرفة عند الجمهور وتقديرهم لهذا النوع من الفن، كما ارتفع عدد التلاميذ الراغبين بتعلم رقص الصالونات. المحطات اللبنانية لا تملك برامج ثقافية، فهي تكتفي ببث بعض المشاريع الثقافية والحفلات. والحجة أن الجمهور ليس مثقفًا، ولا يتابع الثقافة. ولكن معرفة الشيء والحديث عنه تزيد من الاهتمام به: كيف سأعرف أنني أحب البيانو، اذا لم أسمع يومًا بالبيانو والموسيقى الكلاسيكية؟
تقصير من أهل الاختصاص
تقول الباليرينا ريبيكا دحروج: “نرى اليوم أنّ أي أحد تعلّم سنتين أو 3 باليه، يبدأ بالتعليم! والكارثة هي عندما يأذي الأستاذ جسم التلميذ بسبب الجهل. هذا غير مقبول، الباليه دقيق جدًا ويتطلّب الكثير من المعرفة، لأن الاصابات الناتجة عنه خطيرة”. وتزيد موضحة أن المتابعة مع معالج فيزيائي أساسيّة، ومن الضروري سؤاله عن حالات التلاميذ اذا اشتكوا من وجع معيّن. بالاضافة الى أن الأساتذة لا يتعاونون ولا يتبادلون الخبرات بين بعضهم البعض، للارتقاء بالكلاسيك على مستوى وطني. ذلك ان أعداد محترفي هذا النوع من الرقص ضئيلة. فكل الجهود المبذولة، هي جهود فردية. وهنا يشير السوليست المحترف في أوبرا بوخارست وأستاذ الرقص جورج أنجيلوس الى أن “الأنانيّة عائق أمام تكثيف الجهود بين الأساتذة المحترفين وتقديم أعمالًا مهمّة، كلٌ يريد نسبة العمل اليه”.
ويضيف رامي زين الدين: “أهل الاختصاص مقصّرين. اذ يجب التنسيق مع المحطات التلفزيونية لوضع المزيد من الاعلانات، وللسماح لهم بتصوير العرض من أجل أرشفته وبثه لاحقًا “.
في المدرسة والبيت: الدرس الدرس وثم الدرس.
ثقافة الباليه معدومة: ويربّى الأطفال على أنهم لن يصبحوا راقصين: “هذه هواية وليست مهنة ويجب تحصيل شهادة علميّة أوّلًا”. الهواية، لا تصنع محترفين، ولا تثمر عروضًا محترمة.
فيتغيب تلاميذ الكلاسيكي عن صفوف الرقص بسبب الدروس والامتحانات المدرسية. وبعد غياب أسبوعين، يتساءل الأهل لم لا يتقدّم أولادهم. فتجيب دحروج: “يفترض أن يتمرن التلاميذ كل يوم لمدة ساعة بالاضافة الى ساعات الصّف، لتظهر النتائج، فالكلاسيك تمرين يومي. واذا تغيب التلميذ، حتمًا سيتراجع”.
ويطالب الأهل أيضًا بعد أشهر من الكلاسيك (فيها غياب بحجة الدرس): “متى سنرى عرض باليه؟” فيجيب أنجلوس: “الخميس، وقت الحصة.” ويضيف: “لا يفهم الأهل، أن أي عرض يتطلّب التزام وتمرين مستمر. يعتبرون أن الكلاسيك نشاط للترفيه فقط”.
على ذلك، يلاحظ معظم معلّمو الرقص، وبخاصة الكلاسيكي، أن التلميذ البارع في المدرسة، بارع في الرقص أيضًا، ولديه القدرة على تنظيم وقته بشكل أفضل.
وتظهر الدراسات في جامعة أينشتاين في نيويورك، أن الرقص يقلل من خطر النسيان بنسبة 76% من خلال تطوير قدرة الخلايا العصبية. اضافة الى ذلك، يخفف الدوار، يحسّن الذاكرة ويطوّر الذكاء. اذًا، في المرة القادمة التي تفوّتون فيها صف الرقص على أولادكم، لن يصبحوا أكثر ذكاءً أو نجاحًا.

هل تعلم ان الراقص هو رجل يحب الرقص؟
سيرج في السابعة عشرة، في صف الترمينال. يتمرّن 3 ساعات كلاسيك يوميًا في المنزل. يأتي الى مدرسة الرقص مرتين في الأسبوع، في رحلة سندباب، حيث يمضي في الباص ساعتين على الطريق.
كان يكره الباليه لأنه متعب وقاس ومضجر. لكن في الرابعة عشرة، اغرم بهذا الرقص. يخبرنا أن رفاقه كانوا دائمًا ينتقدونه وينعتوه بال”لوطي”. “انهم لا يفهمون، ولا يتقبلون الراقص. حتى أبي وأخي يظنّون أنه للفتيات، لكنهم لا يقفون بوجه ما أحب. وأنا أحارب هذا التنمر بمزيد من الباليه، لأنني أعرف ما أريد، وأرى بما يفيدني.
أريد أن أحترف الباليه في مدارس في الخارج وأمتهنه. لكنني أعلم أنهم في الغرب، يبدأون عن عمر صغير جدًا. يخيفني ألا يكون تمريني كافيًا، وألا يكون جسدي قويًا وحاضرًا. وبعد أن أنهي دراستي، سأعود الى لبنان، لأعطي الباليه المكانة التي يستحقها، مهما تطلّب هذا الأمر”.
ملاحظة: الرجال كانوا يؤدون أدوار النساء في الباليه. ولم تبدأ النساء في الرقص، الّا بالعصر الروماني. آه، وهؤلاء الرجال، معظمهم من الملوك.
محاولة حل محبطة
قدّمت ندى كانو عدة مشاريع لتأسيس فرقة رقص وطنية الى الوزارات، وكان الجواب دائمًا بالتأجيل وبـ”منشوف شو فينا نعمل”. لكن هذا المشروع يتطلّب دعم مالي كبير. فالراقصون المتفرغون للرقص بحاجة الى معاشات شهرية. وفي العام 2013 تواصلت كانو مع مسؤولة الثقافة في السفارة الفرنسية “كارول برات”، والكونسرفتوار الوطني للموسيقى، لتأسيس معهد وطني للباليه. وأتت برات بمفتش مختصّ بالرقص، ليدرس المعطيات ويحدد خطط العمل، وقدّم تقريرًا مكتوبًا، “سميكًا”. كان المشروع سائرًا على قدم وساق، الى أن تغيّرت المسؤولة الثقافية الفرنسية. لم يكن انشاء معهد للباليه من أولويات أو اهتمامات المسؤول الفرنسي الجديد، الوزارات المختصّة لم تتبنى مشروع كانو وبرات، فأحبطت المحاولة.
خطة جديدة واعدة: على ألا تبقى أمل على ورق
يتفاخر السياسيون أن لبنان “يصدّر” الفن والثقافة، لكن هذا التصدير قائم على المبادرات الفردية البحتة، التي لا علاقة للسلطة بها، لأنها ترعاها عن بعد.
وزارة الثقافة حديثة المنشأ، تأسست سنة 1993. ونظّمت في حزيران 2017، في قصر الأونيسكو، “المؤتمر التحضيري للخطة الخمسية للنهوض الثقافي في لبنان”، حيث وضعت منهجية لتطوير الاستراتيجية الثقافية. شارك بالمؤتمر أكثر من 500 مثقفًا من أهل الاختصاص لتحديد التوصيات والاقتراحات الواجب تنفيذها.
تشمل هذه الخطة كل أنواع الآداب والفنون. لم يذكر الكتيب “الباليه” أو “فرقة رقص وطنية”، ولكن خصص جزء جيد من الخطة للكلام على الرقص بشكل عام. الأمر الذي يعدّ خطوة واعدة. ومن ضمن المبادرات التي تسعى الوزارة لتنفيذها: “انشاء دار للأوبرا ومركز للفنون المسرحية والمسرح الوطني”، “العمل على ادخال مادة الرقص في المناهج التعليمية”، “انشاء معهد للتدريب على الرقص” (نأمل أن يوفّر شهادات ذات مستوى محترف)، و”اقامة دورات تدريبية في الرقص الفلكلوري والمعاصر في لبنان والخارج”.
ولكن…
يستدعي نجاح هذه الاستراتيجية “قرارًا سياسيًا جريئًا بالاستثمار في الثقافة، يقضي تأمين اعتمادات اضافية لموازنة الوزارة تبلغ حوالي 180 000 000$ تصرف على 5 سنوات”.
(المعلومات واردة من كتيّب “استراتيجية النهوض الثقافي في لبنان: أولويات، أهداف، مبادرات”، 2017)
عالسريع
بدأ الحديث عن تاريخ الباليه عام 1533 حين تزوجت كاثرين دو ميديسي الايطالية بالملك هنري 2 الفرنسي. كان البااليه رقص ملكي، تتمحور قصصه حول عالم الأرواح والسحر واظهار النساء بصورة هشّة. ومع الملك لويس الرابع عشر، الراقص الذي شارك بمعظم عروضات الباليه، أصبح الأخير رقصًا شعبيًا، له تقنياته.
ومع العولمة تطور الباليه وانتقلنا من التوتو والشعر المربوط والقصص الملكية الخرافية، الى الثياب المريحة والشعر المفلوت والأقدام الحفاة وتجسيد قصص واقعية او فقط الاحساس بالموسيقى. هذه الحداثية كانت على أيدي ايزادورا دونكان، ومارثا غراهام وجورج بالانشين.
“نشوة” في لبنان
“نشوة” عرض كلاسيكي صمّمته الراقصة ومصممة الرقص السيدة جورجيت جبارة، سنة 1994 على مسرح البستان. شارك في العرض الى جانب تلميذاتها، ثلاث راقصين شباب من فرنسا. يتناول العرض رؤية جبارة للأديان وحالة النشوة من خلالها. وقد اختارت جبارة التصاميم ونسقت الموسيقى، وتكلفت بكل المصاريف. لكن الدعاية لم تكن كافية لملء كل المقاعد.
توقّف العرض بسبب رداءة الأحوال الجويّة، بعدما استمرّ عرضه 4 مرات في الأسبوع طوال شهرٍ.
