كم هو بارع في التخفي والظهور

بقلم: اليسا مدوّر |

الواحدة وثلاثة وعشرون دقيقة بعد منتصف الليل.  أتذكّر التوقيت لأنّني أنعمت النظر في هاتفي، أسأل الساعة إن كان الوقت متأخرًا. وحدي في المنزل في بيروت .
يائسة لدرجة أنني، فتحت ال”واتس آب” وبدأت أتجوّل في نوافذ أفراد عائلتي وأصدقائي، أرجو أن أرى online تساندني.
أرسلت هل أنت “مستيقظ/ة” للعديد من البشر، وكانوا نائمين. كنت بحاجة ماسّة الى أن يقول لي أحدهم “أنا هنا”، فأتكلّم.
في ظلّ هذا اليأس الذي لم أعرف تفسيره حينها، صرت أتساءل كيف سأشرح في النهار التالي، لمن أرسلت إليه الرسالة النصّيّة، ولم يجب، أنّني كنت على شفير الاستسلام.
دبّرت الجواب في رأسي.
أخيرًا ردّت ابنة خالتي. سألتها أن تقول لي أيّ شيء لئلا أستسلم. أيّ شيء. أرسلت بعض الاقتباسات. ولكن الوقت كان متأخّرًا، ولم تفهم ماذا كنت أعاني، ولم أجد الهمّة لأشرح لها، فتوقفت عن الكلام.
إنّها الثانية والنصف. أفكّر في أشخاص أعرفهم قالوا لي إنّهم يعانون من الاكتئاب، فقط لأشاركهم شيئًا من بؤسي. هم وحدهم يعرفون، من دون أن أشرح، ربّما. لكن بئس الأرقام! أخبروني لأنّني كنت غريبة! وأنا الآن أريد أن أتكلّم، فأين هم!؟
لم أقو على غمر لحافي حتّى. أغرقت رأسي في الوسادة حتى تبلّلت، وحاولت بصعوبة، – قدر المستطاع- تنشّق بعض الهواء. فتحت يديّ، لكي أساعد جسدي على ذلك. يشدّني البلكون إليه كمغناطيس، أقاومه، ممدّدة ببلادة ثقيلة على السرير.
اشتدّ وجع رأسي الى أن شعرت بحلقي يتمزّق وبأنّني لن أستطيع التكلّم من جديد. اشتدّ كثيرًا…
إنّها الحادية عشرة صباحًا.
الألم يؤلم. الألم يحوّلني، يمسخني. وأنا أحاول.

مرّة، عندما خانتني الدموع، شعرت بأنّ من أمامي “رأى” أنّ الألم حقيقيّ. وليس مجرد “ضعف شخصيّة”، أو أفكارًا سوداوية، أو شيئًا من هذه النظريات العبيطة التافهة.
أنت مدبرس؟ لا يا أخي، لا أتمنى لك هذا أبدًا. أنت تعب، مضغوط، حزين، تتألم… ولكنّك لست مدبرسًا. بلغت هذه الكلمة حدّ الابتذال، بحيث صارحت أحدهم أنّني أعاني من اكتئاب حادّ، فمرّت الجملة مرور الكرام. كأنّ “إي أكيد، ما كلنا هيك”.

عيناي في الصباح كانتا متنفختين.لا أقوى على الحراك. بقيت مستلقية حتى الرابعة، لأذهب عند معالجتي النفسية. لم يكن لأيّ شيء معنى في هذا النهار، إلا الموعد.
أخبرتها عن ليلة أمس، وبدأت أتكلم. هذا الكلام الذي لا أريد أن أقوله أمام أحد، ولكن أريد أن أخرجه من جسمي. رغم أنّني أتقن الكلام مع نفسي وأمام كاميرا، هناك كلمات، لم تخرج من عنقي ومعدتي وكتفيّ، إلا في العيادة. وكأنّ المعالج نكرة. لا أعرف أين يكمن اللغز في إخبار “غريب”. كإطلاق صواريخ عشوائية، لا يهمّ أين تقع، ولكن إن بقيت مكانها، قد تنفجر وتسبب أضرارًا جسيمة.
قالت لي المعالجة: “اختاري الآن أيّ شيء في الغرفة، وضعي اكتئابك فيه، لئلا تحمليه معك خلال الأسبوع، ويعذّبك”. فحاولت.
طبعًا لم تنجح الخطة، فالاكتئاب متمرّس بالغمّيضة.

قبل أن أعرف “شو بني”، اتّهموني بأنّني مهووسة بتناول الأدوية. لا، فأنا أكره الدواء. أكرّر: لم أعرف ماذا كان يخنقني بشدّة، أردت لهذا الشيء أن يتوقّف، بأي وسيلة كان.
كنت أصدّق الاكتئاب عندما يقول لي: “هذه مرحلة ستنتهي”. والمرحلة أصبحت مراحل، والمراحل عادة، والعادة أمر طبيعيّ، والطبيعيّ استقرّ استقرارًا طبيعيّا.
كان يهمس لي دائمًا “– تتلذذين؟ لا لا هذا غير مفيد. سأساعدك على تضييع وقتك في الانهزام داخل أفكارك. سأساعدك على ألا تقومي بأيّ شيء له معنى. سأجعلك تصبحين لا شيء. سأضعك في دائرة سوداء فارغة، وسأبقى هنا، حسنًا؟”
يقبّلني، وينجح.
جرّدني من حبّي للقراءة والموسيقى والمشي في الطبيعة. دمّر ذاكرتي وتركيزي ونشاطي وراحتي. وتنفّسي. لم أعد أعرفني، أبدًا. أدين للرقص الذي كان يشعر جسدي بقدرته على التحمّل. أدين للحب أيضًا.

تذكرت صديقًا سألني في النهار نفسه: “ماذا ترقصين؟”
– hip hop , latin وballroom.
– أوف شو ما ببيّن عليكي. كتير بحسّك باليه كلاسيك وهيك.”
ابتسمت. إلى أن وصلت إلى منزلي.
بعد خمس سنوات أصبح يعرفني أكثر منّي. بات بارعًا في التخفّي والظهور.
إنّه مرض فتّاك، وغدار. أما أنا، فمحاولة مستمرّة.

لئلا يبقى الاكتئاب مروّضًا وأليفًا داخل جدران العيادة فقط، وحرّا يمرح في ظلال نفسي.